عندما يقذف بنا في هذا الوجود نجد أنفسنا أمام شجرة كبيرة، نتسلق جذعها لنصطدم بتفرعات الأغصان، أغصان على اليمين وأغصان على اليسار. وفي أي تفرع، تتفرع مجموعة من الاختيارات، وأمام كل مفترق طرق يجب أن نختار ونتخذ قرار أي طريق سأسلك لكي نصل إلى القمة. القمة يمكن أن تكون هدفا نود بلوغه، نجاحا نحققه… وقمة القمم هي الموت. فـ “نحن وجود لفناء، والموت يترصدنا في كل خطوة من خطواتنا لا بمعنى أنه شيء خارجي سيقبض أرواحنا في لحظة من اللحظات، ولكن بمعنى أننا نحمل موتنا داخل أنفسنا كما تحمل الأم جنينها، وهذا ما يسميه هايدجر بالوجود من أجل الموت، وتلك صفة من صفات الوجود الإنساني. وليس معنى الوجود من أجل الموت أن الموت هدف يسعى الوجود إليه، أو تطور نحو غاية إذا بلغها الإنسان أصبح شيئا مكتملا. فإن الوجود الإنساني لا يمكن أن يكتمل بطبعه لأنه لا يستطيع أن يحقق كل إمكانياته، والموت ليس اكتمالا لهذه الإمكانيات، وإنما هو انقطاع لها. الموت هو استحالة كل إمكانية.”(فلاسفة وجوديون، فؤاد كامل عبد العزيز)
في طريقنا نحو الموت، تتعدد الإمكانيات، وأي إمكانية نختارها فهي إقصاء لإمكانية أخرى وأي قرار نتخذه فهو إعدام لقرارات أخرى كان بالإمكان تبنيها. فلماذا اخترت هذا الاختيار وليس الآخر؟ ولماذا اتخذت هذا القرار حيث كان بإمكاني اتخاذ قرار آخر؟ لماذا عند مفترق الطرق اخترت وقررت أن أتمسك بذلك الغصن على اليسار وليس الآخر الذي على اليمين؟
يعتبر أرسطو أن “الأصل في الفعل هو الاختيار، والأصل في الاختيار هو الرغبة والمنطق… والفعل الجيد ومضاده لا يمكن أن يتواجدا من دون مزيج من التفكير والشخصية. “(نظرية الاختيار، مايكل ألينجهام، مقدمة قصيرة جدا، 2016) أو بعيارة أخرى “الاختيار رغبة مدروسة”. عقل ووجدان، منطق وعاطفة، رغبة لها علة وهذه العلة لها معلول وهكذا دواليك، هذه العلل لا يمكن تحديدها ومعرفتها. وبالتالي فإن “حرية الإرادة وهم” وهذا هو مبدأ سبينوزا في حرية الإرادة، “إن الإرادة كالعقل، نمط معين من التفكير، وبالتالي فانه لا يمكن لأي فعل إرادي أن يوجد ويحدد لإنتاج معلول ما الا من قبل علة معينة، وهذه العلة بدورها من قبل علة أخرى، وهكذا دواليك”. (علم الأخلاق – سبينوزا)
هذه الحتمية تستمد أساسها من العلوم الوضعية، من الفيزياء النيوتونية. حيث كل شيء محكوم بقوانين الفيزياء. “نعتقد أننا أحرار، لكننا أحرار فقط كسقوط الحجارة” (سبينوزا، رسالة إلى shuller. 1674). نفس النظرة نجدها عند دويسفكي، ففي روايته مذكرات قبو يقر أن “كافة ما يفعله –الانسان- ليس بفعل إرادته، وإنما يحدث من تلقاء ذاته، طبقا لتلك القوانين الطبيعية، لكي يكف الإنسان عن الاستجابة -تبعا لذلك- بأفعاله، فتغدو الحياة سهلة بشكل رائع. في هذه اللحظة بالذات، ستكون الأفعال الإنسانية بالطبع، قد صنفت وفق تلك القوانين الطبيعية، تصنيفا رياضيا يجعلها تقريبا مثل جداول لوغاريتمية، إلى حدود رقم 108000”.
التجارب العصبية التي أجريت من أجل دراسة حرية الاختيار تؤكد هذا الطرح. ففي تجربة لسون سيونغ سون وزملائه قام “بتزويد الشخص بزرين ويمكنه أن يضغط وقتما أراد على أي زر يريد. يتم متابعة نشاط الدماغ بواسطة جهاز للتصوير بالرنين المغناطيسي وهو الأمر الذي يمكن الباحثين من مراقبة آنية لنشاط عدة الدماغ. بينت الصور أن النشاط الدماغي يولد في الدماغ 8 إلى 10 ثوان قبل أن يأخذ الشخص قراره بالضغط. بل أكثر من ذلك، فقد تم الوصول إلى أن هذا النشاط المبكر يعطي الإمكانية للتنبؤ بالجهة التي سيختارها الشخص ليضغط على الزر وذلك من خلال تتبع مناطق خاصة في الدماغ.
في الواقع إن الأفعال والقرارات اليومية التي نعتقد أنها نتاج اختياراتنا وتوجيهنا الواعي السريع، أي ما يسميه عادة الناس العقل أو التعقل، هي في حقيقتها صادرة عن عملية أكثر بطئا تنبثق من اللاوعي. ولكن بما أن عمليات اللاوعي أسرع بكثير من الوعي فإن هذا الأخير ينكشف للشخص فقط بعد أن يكتمل عمل اللاوعي، ويعطي الدماغ الإحساس بعد ذلك بأن الوعي هو صاحب القرار. (أصل الأخلاق الإنسانية – توفيق محمد الحسن مسرور 2017).
الحديث عن اللاوعي يقودنا إلى نظرية تصنف كذلك من بين النظريات الحتمية في تفسير السلوك الإنساني وهي نظرية التحليل النفسي، فحسب فرويد الإنسان دمية في يد لاوعيه. كل سلوكياتنا ما هي إلا انعكاس للاوعينا الذي تشكل في الخمس السنوات الأولى من عمر الإنسان. وما يظهر من شخصيتنا ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي يخفي جزأه الأكبر تحت الماء، فاختياراتنا بهذا المعنى محددة حتما بماضينا لها جذور عميقة تصل إلى اول صرخة أطلقها الإنسان في هذا الوجود.
إذا كانت اختياراتنا حتمية، محكومة بشرط معين، قوانين الطبيعة أو اللاوعي أو التأثير الاجتماعي. فماذا تبقى منا، إذا سلب الإنسان حريته في الاختيار وفي تحديد مصيره.
الوعي “كفعل يتجه دائما لشيء” وهو ما يعرف في الفينومينولوجيا بالقصدية. الوعي ترنسدندالي “فهو دائما، إدراك لشيء، حكما بشيء، توقعا لشيء، تذكرا لشيء، حبا لشيء…”. (مدخل إلى الفلسفة الظاهراتية – أنطوان خوري 1984). الوعي الفينومينولوجي خارج عن الزمن، فيمكنني أن أعيش آنيتي بأبعادها الزمانية الثلاث في الآن نفسه. الزمن الفينومينولوجي كالراكب في السيارة (الحاضر)، يتجه إلى جهة ما (المستقبل)، وينظر في المرآة (الماضي). يترتب عن هذا أن فرضية الدماغ أو قوانين الطبيعة هي المسؤولة عن قراراتنا تبقى بين قوسين. فجدلية الذهن والدماغ، هل تُفسر بالثنائية الديكارتية أم الأحادية المادية العصبية، ما طبيعة الوعي هل مفارق للدماغ أم محايث له. كل هذه الأسئلة تبقى إلى حدود الساعة معضلة فلسفية يصعب الإجابة عنها.
حتمية سلوكياتنا لها بعد خطير على تحمل مسؤولية أفعالنا، نفي الحرية عن أفعالنا يعيد النظر في مسؤولياتنا الأخلاقية والقانونية أمام أفعالنا. لها تأثير كبير على مفهوم العدالة. فلماذا يحكم القاضي على الجاني إذا كان غير مسؤول عن أفعاله. أمام هذه المعضلة المذهب الوجودي يطرح البديل عن طريق مقولته المؤسسة “الوجود يسبق الماهية. فما أنت عليه (جوهرك) هو نتاج لخياراتك (وجودك) وليس العكس. الجوهر ليس المصير، فأنت ما تختار لنفسك ما تكون عليه”. “فالوجودية مذهب تدور حول الحرية، قوامها يتمحور حول حقيقة أننا نستطيع الانفصال عن حياتنا لوهلة وتأمل ما كنا نفعله فيها. بهذا المعنى فإننا دائما أكثر من أنفسنا. لكننا مسؤولون مثلما نحن أحرار”.(الوجدية مقدمة قصيرة جدا -توماس أرفين 2014).
الاختيار ليس هو القرار، ففعل اختار choisir ليس هو فعل قرر décider، رغم أنه يتبدى لنا من الوهلة الأولى أن لهما نفس المعنى. أختار يعني أن أتسلح بمعايير عقلانية لكي أدعم بها فعلي، أقرر يعني أنني أعوض نقص هذه المعايير باستعمال حريتي. أختار يعني أعرف قبل أن أتصرف. أقرر أتصرف قبل أن أعرف (La confiance en soi. Une philosophie, Charles Pépin K,2018). الاختيار عقلاني يتأسس على مبدأ سبب نتيجة، أما القرار فهو فعل الصدفة.
الصدفة نقيض الحتمية، هي ما تمنحنا حرية التصرف. فإذا كانت الحجارة محكوم عليها بنهج مسار معين. فالإلكترون لا يخضع لقوانين ميكانيك نيوتن. حركة الإلكترون تخضع لقوانين فيزياء الكوانتم. لا يمكن التنبؤ بمكانه وبمساره. ما يمكن تحديده هو احتمالات تواجده في هذا المكان أو ذاك. فلسفة الكوانتم تتأسس على مبدأ الاحتمال واللايقين. فالمراقب لحركة الإلكترون ليس مراقبا له بل مشارك في التجربة فيمكنه أن يغير مساره وطبيعته، من طبيعة جزيئية إلى طبيعة موجية بمجرد مراقبته.
قراراتنا كذلك تخضع لنفس القوانين، هي مجرد احتمالات يمكن أن تصيب ويمكن أن تخطئ ونحن مشاركون في اتخاذ قراراتنا وتحمل مسؤوليتها. فحتى لو اعتبرنا فرضا أن قراري يحدث على مستوى الدماغ قبل أن أتخذه بعشر ثوان، فكيف يمكن تفسير قرار التريث قبل اتخاذ القرار. هل اتخذته قبل هذه العشر ثواني أم بعدها.
الحديث عن حرية الاختيار معضلة فلسفية وعلمية ودينية أسالت الكثير من المداد عبر التاريخ. فهي ما تحدد وجودنا ككيان إنساني. هي ما تحدد حريتنا ومسؤوليتنا، الدينية والأخلاقية والقانونية. الإجابة عن هذه المعضلة لا يمكن أن يتم في مقال كهذا. لهذا تبقى الأسئلة المطروحة في بداية هذا المقال مفتوحة إلى حين.
#الحرية #واتخاذ #القرار