بعدما استعرض المنتصر السويني، باحث في المالية العامة والعلوم السياسية، أدوار مخاطبة الأمة في عمليات ترسيخ الملكية المتكلمة، تناول في الجزء الثاني والأخير من مقاله محاور “الملكية المتكلمة وثنائية: القول الثقيل-المسؤولية عن القول”، و”المؤسسة الملكية والخطاب المكتوب بدل الخطاب المرتجل”، و”الملكية المتكلمة واستراتيجية: (إنه الاقتصاد يا غبي)”، و”الخطاب الملكي واستراتيجية الاقتصاد في الكلام”، و”الخطاب الملكي وترسيخ مكان السلطة المشغول”.
وأشار السويني إلى أن “أنطوان هولو-غارسيا، أستاذة علم السياسة الإيطالية، تؤكد على أن الرؤساء عندما يستعملون (الأنا) في خطاباتهم وقولهم، فإنهم يتصرفون كقادة مطلوب منهم تحديد الاتجاه. وعندما يستعملون (نحن)، فإنهم يركزون على ضرورة الوحدة من أجل بناء المستقبل المشترك، وبالتالي يركزون على ضرورة الجماعة من أجل صناعة الأفق”.
وقال المنتصر السويني أن “الملكية المتكلمة التي تستعمل (الأنا- نحن) هي ملكية تؤكد على ثنائية المرحلة-الاتجاه، وهكذا عملت الملكية على تخصيص القول الملكي المرتبط بخطاب المسيرة الخضراء وخطاب ثورة الملك والشعب لقضايا الوطن والاتجاه العام بالأساس، كقضايا الأرض والوحدة وقضايا الإجماع والقضايا المتعلقة بالبوصلة الاستراتيجية…، أما القول الملكي موضوع خطاب العرش فعملت من خلاله على التركيز على القضايا المرتبطة بالمرحلة، أي ما أنجز في مرحلة حكم الملك محمد السادس، والمطلوب استكمال إنجازه، والقيمة المضافة للملكية في عهد محمد السادس…”.
في ما يلي الجزء الأخير من المقال:
إذا كنا قد خصصنا الجزء الأول من مقالنا للحديث عن دور القول الملكي في ترسيخ “الملكية المتكلمة” من خلال الحديث عن أهمية القول الملكي في ترسيخ الملكية المتكلمة، وأهمية زمن القول الملكي بالمغرب، وكذلك الخطاب الملكي واستراتيجية القول الثقيل، والخطاب الملكي والقول الديبلوماسي، وبعد ذلك استراتيجية القول المتفائل، وفي الأخير الخطاب الملكي واستراتيجية القول الرزين، فإننا نخصص الجزء الثاني من مقالنا للقول الثقيل والمسؤولية عن القول، ومن ثمة الحديث عن الخطاب الملكي باعتباره خطابا مكتوبا وليس مرتجلا، ومن ثم “الخطاب الملكي واستراتيجية: (إنه الاقتصاد يا غبي)”، ومن بعد “الحديث عن الخطاب الملكي واستراتيجية الاقتصاد في الكلام”، وفي الأخير “الخطاب الملكي ومكان السلطة المكشوف”.
8. الملكية المتكلمة وثنائية “القول الثقيل-المسؤولية عن القول”
عمل المشرع الدستوري المغربي ما قبل 2011 على دسترة “الملكية المتكلمة”، مستهدفا من ذلك منح المؤسسة الملكية وسيلة من وسائل الحكم (عبر ترسيخ الحكم كذلك من خلال وسيلة الخطاب). لهذا كان “الخطاب الملكي” يقرأ ضمن ما يطلق عليه ترسيخ استراتيجية الحكم من خلال الوسائل.
ولكن دستور 2011 جاء في مناخ دولي مغاير، يتميز على الخصوص بصعود التجارب الدولية المعتمدة على نظريات التدبير العمومي الجديد (بريطانيا-كندا-الولايات المتحدة الأمريكية)، وعلى التدبير من خلال النتائج. هذا المناخ الدولي كان من المفروض أن يؤثر على المشرع الدستوري لكي يعمل على دسترة أسس الحكامة الجيدة وتقييم السياسات العمومية (خصوصا تقييم الأثر) والتدبير العمومي الجديد المعتمد على “التدبير من خلال النتائج”. دسترة الحكامة الجيدة وتقييم السياسات العمومية، كان يعني أن المؤسسات الدستورية المغربية (المؤسسة الملكية كذلك) تدخل في مرحلة الحكامة العمومية الجديدة. يقول جي روشير في كتابه “مقدمة للسوسيولوجيا العامة” إن “تعريف المنصب يعتمد على توضيح الإضافة التي يقدمها هذا الأخير للتنظيم ككل”، وبالتالي عملت الملكية المتكلمة على تخصيص القول الملكي لتوضيح ما يقدم منصب رأس هرم الدولة للبلد.
إذن، إذا كان من المعروف أن السياسة نصفها فعل ونصفها الآخر رد فعل على أحداث غير متوقعة، فإن المهام الموكلة لرئيس الدولة ليس فقط التوفر على البرنامج، بل وكذلك النجاح في توضيح الاتجاه، بالإضافة إلى مواجهة الظروف غير المتوقعة (أزمة كوفيد مثالا).
كما أن القول الملكي في ظل مبادئ الحكامة الجديدة، لم يعد مطلوب منه الاعتماد فقط على القول العام لرئيس الدولة، بل صار المطلوب منه التركيز على النتائج التي يحدثها هذا القول على أرض الواقع، أي القول المحاسباتي (القول-الالتزام-التصفية-الأمر بالأداء-الإنجاز) الذي يركز على: القول “ما أنجز”، الذي تم إنجازه من القول، والذي مازال في طور الإنجاز “الأثر الذي يتركه الفعل على الأمة”، وبالتالي عملت المؤسسة الملكية في إطار دستور 2011، خصوصا، على الانتقال إلى القول الملكي باعتباره وسيلة ولكن داخل منظومة الحكامة الجديدة (الخطاب البرنامج-الخطاب التقييم).
من خلال دسترة الحكامة العمومية الجديدة، كانت المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس تؤكد أنها مقتنعة بما قاله السوسيولوجي الفرنسي بيير روزنفلون في كتابه “الدولة في فرنسا”، حيث أكد أن الدولة الحديثة تعتمد على الحداثة الديمقراطية التي يتم بناؤها من خلال ثنائية “فكرة أهمية التمثيلية الشعبية – وفكرة العقلنة والترشيد والفعالية”، بل أكثر من ذلك، فإن استراتيجية العقلنة والترشيد ستفرض نفسها كأولوية الأولويات. وفي هذا السياق، أكد السياسي والأكاديمي الفرنسي جون بيير كودان في كتابه “نقد الحكامة” أن النقاشات حول المشروعية الشعبية تترك مكانها أمام “النموذج المحاسباتي (النموذج الذي يعتمد على قياس الكلفة، الفعالية، النوعية، المؤشرات…)”، والذي يعتمد أساسا على تنزيل “استراتيجية الحكامة من خلال النتائج”، لأن وحدها الحكامة من خلال استراتيجية النتائج قادرة على ترسيخ مفهوم “العمل الجيد”، خصوصا وأن العمل الجيد يتحدد فعليا بشكل بعدي وعلى أرض الواقع.
انتقال المؤسسة الملكية من الحكم من خلال الوسائل إلى الحكم من خلال النتائج، كان يعني أساسا وضع القول الملكي داخل استراتيجية التدبير من خلال النتائج، وبالتالي الانتقال من القول العام إلى القول الأهداف والمؤشرات والنتائج على الأرض، مما يعني الانتقال من العمل من داخل ثنائية “الملك-الأمة”، إلى العمل على ترسيخ الفكرة الجديدة من أن حرية القول “لشخص الملك”، تقابلها المسؤولية عن القول أمام الأمة “سلطة القول” “المسؤولية أمام الأمة عن القول”، وبالتالي عملت الملكية على تبني استراتيجية الحكم من خلال النتائج.
المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس دشنت فعليا الانتقال من “الدولة القانونية” إلى “الدولة التدبيرية”، هذا الانتقال كان يتطلب التأكيد على أن ترسيخ الملكية المتكلمة مرتبط بشكل وثيق بترسيخ فعلي لثنائية (القول-الفعل)، ترسيخ هذه الثنائية كان انحيازا قويا من الملكية المتكلمة إلى أنه لا وجود لقول دون فعل، وبالتالي لا وجود لسياسات عمومية دون أثر على الأمة.
إعطاء الأهمية الضرورية من طرف المؤسسة الملكية لثنائية القول والفعل، كان يتطلب من المؤسسة الملكية تحريك سلطاتها، وخصوصا ثنائية “التعيين-التأديب”. وفي هذا السياق، كان لا بد من تفعيل الملكية التي تعاقب (المجلس الأعلى للحسابات-المفتشية العامة لوزارة الداخلية) كل من ثبتت مسؤوليته عن عرقلة أو تنزيل القول الملكي إلى فعل له أثر ملموس ويمكن قياسه على أرض الواقع وفي الحياة اليومية للأمة (منارة المتوسط نموذجا).
تفعيل الملكية التي تعاقب منح قوة إضافية لقوة الثنائية المكونة من “القول-الفعل” بالنسبة للمسؤولين وبالنسبة للأمة كذلك (السرعة التي صارت تتعامل بها المؤسسات الدنيا مع الاستراتيجية الملكية)، مما عمل على ترسيخ القول المسؤول (القول-الالتزام-التصفية-الأمر بالأداء-الإنجاز)، خصوصا وأن القول المسؤول يشد من عضد السياسة ويعمل كذلك على ربط السياسة بالأخلاق. تقول الفيلسوفة الألمانية حنا اراندت إن “اعتماد القول البعيد عن الواقع واعتماد القول على الكذب السياسي، سيخلق ضبابية مدمرة للسياسة، وسيعمل على تدمير القيم التي من خلالها نعرف البوصلة في العالم الواقعي والحقيقي”.
تفعيل المؤسسة الملكية لسلطة العقاب من أجل منح القوة الضرورية لثنائية “القول الملكي-التنفيذ من طرف السلطات الدنيا)، كان يرسخ كذلك ما أطلق عليه أستاذ التاريخ السياسي نيكولاس روسليي “قوة الحكم”. قوة الحكم ترسخ الصعود القوي للسلطة التنفيذية في الحياة المؤسساتية للدول، هذا الصعود كان الهدف منه سلطة تنفيذية قادرة على ترسيخ الحكم القوي من خلال سياسات عمومية طموحة، تترك أثرا إيجابيا على حياة المواطنين.
المؤسسة الملكية كانت تعي جيدا أن ترسيخ قوة الحكم من خلال تنزيل ثنائية “القول الملكي-المسؤولية عن القول أمام الأمة” يمنح للخطاب الملكي وزنا قويا في الداخل والخارج. الوزن القوي للقول الملكي يجعل الخطاب الموجه للأمة سلاحا استراتيجيا للحكم في يد الملكية، خصوصا وأن التجارب الدولية أثبتت لنا أن الرؤساء الذين لم يعملوا على ربط الخطاب بالمسؤولية أمام الشعب وأمام الرأي العام، عملوا فقط على تدمير سلاح “سلطة الخطاب” (لأن خطاباتهم لم تعد تحرك شيئا في المياه الراكدة في البلد، وبالتالي فقدت “سلطة الاستماع”).
9. المؤسسة الملكية والخطاب المكتوب بدل الخطاب المرتجل
منذ توليه الحكم، انحاز الملك محمد السادس إلى الخطاب الموثق والخطاب المكتوب على الورق، خصوصا وأن الخطاب الذي يحمل القول الثقيل من المفروض أن يبث الأفكار من خلال القول النص (الملفوظ مفهوم المعنى) والقول المكتوب، لهذا سيعتبر صاحب كتاب “الدولة الفرجة” أن الراديو (لقد سمعناك) كان مناسبا أكثر لخطاب الأفكار، بينما التلفزة (لقد رأيناك) تركز على الصورة والهندام والحركة…، وبالتالي شوشت على خطاب الأفكار من خلال إدخال معطى الصورة.
ورغم أن الفصل 52 من الدستور نص على ثنائية “الملك-الخطاب”، إلا أن صيغة الخطاب الموجه للأمة كان تركيزا من المشرع الدستوري على أهمية الخطاب (القول الأهداف-القول البرامج) أكثر من التركيز على الصورة والشكل والهندام (الدولة الفرجة)، وبالتالي عملت المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس على التركيز على القول الملكي (إننا نراك ولكننا نركز على قولك)، في لحظة الخطاب، لأنه قول ثقيل وقول له أثر على الأمة، واعتبارا لذلك، فمن المفروض أن يكون قولا موثقا وقولا مدونا، خصوصا وأن الخطاب المرتجل يتميز بكونه خطابا قد يتضمن تكرارا، وجملا، ويتضمن كذلك جملا غير مكتملة، (انقطاعات، تصحيحات…) ، بينما الخطاب المكتوب ورغم كونه خطابا شكليا ومعقدا، إلا أنه لا يستفيد من التصحيحات البعدية ولا يمكن التراجع عنه، لهذا يمتلك خاصية الخطاب الواضح والمدون والمليء بالأفعال بلغة الأفعال.
تنزيل ثنائية “القول-المسؤولية عن القول” مرتبط بشكل وثيق بالقول المكتوب لأنه القول الموثق، كما أن الخطاب الموثق يمتلك خاصية الزمان والمكان عكس القول المرتجل، كما أن الخطاب المكتوب يكون عرضة للحكم والتحليل من طرف المتلقي العمومي، ويتضمن محتوى فكريا عاليا ويحمل كذلك أفكارا. في كتابه الذي يحمل عنوان “مذكرات الأمل”، يؤكد شارل ديغول أنه يعمل على كتابة خطاباته بعناية فائقة ويقوم بمجهودات جبارة أثناء الخطاب لعدم قول شيء غير مكتوب.
كما أن الخطاب المكتوب في الميدان السياسي يمتلك خاصية التوثيق، لهذا يتم تصنيفه في خانة المسؤولية والالتزام السياسي. وفي هذا السياق، يقول الباحث الفرنسي اولفيي بود: “إن كلمة رئيس الدولة ترقى إلى مستوى موضوع المسؤولية السياسية”، ويضيف أن “ارتقاء القول الرئاسي إلى مستوى موضوع المسؤولية السياسية، يتجسد من خلال جنوح رئيس الدولة إلى اللغة الغنية بالفعل وتضمين الخطابات الرئاسية كلمات تربط الرئيس بدل خطاب شفهي متقطع أو خطاب خفيف وغير منسجم، وبالتالي غير قابل ليكون موضوع التزام سياسي أمام الأمة وأمام الرأي العام”.
انحياز المؤسسة الملكية للخطاب المكتوب على الورق هو انحياز يندرج في إطار تنزيل استراتيجية “القول-الفعل”، واستراتيجية “القول-المسؤولية عن القول أمام الأمة”.
10. الملكية المتكلمة واستراتيجية “إنه الاقتصاد يا غبي”
تخصيص موضوع الخطابات الملكية للحديث عن تحديد البوصلة الاستراتيجية والنموذج التنموي وتعميم التغطية الصحية والمشاريع والحديث عن الخروج من الجغرافية الاستعمارية، هو جواب قوي ومدروس لشعوب المنطقة وللقادة المغاربيين والأوربيين بأن البوصلة لا يمكن أن توجه إلا نحو المستقبل، وليس إلى الماضي والحدود والحروب.
من خلال القول الملكي ذي الحمولة الاقتصادية، كان الملك يوجه رسائل مشفرة إلى الجوار عنوانها الأساسي “إنه الاقتصاد يا غبي” (“إنه الاقتصاد يا غبي”، هو الشعار الشهير الذي أبدعه الكاتب والمستشار السياسي لحملة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، جيمس كارفيل، ردا على استراتيجية بوش الأب المعتمدة على السياسية والحروب والتفوق العسكري الخارجي).
الملك ومن خلال القول الثقيل والقول الاقتصادي، كان يريد أن ينبه قادة المنطقة ونخبها المحنطة (التسمية التي أطلقها أستاذ التاريخ بنجامين ستورا على النخب الجزائرية) إلى أن النجاح في مواجهة المستقبل يعتمد على تبني الحل الاقتصادي، وليس من خلال تبني ما أطلقت عليه حنا أراند “تفاهة الشر”، أو ما أطلق عليه جاك جنيرو “البلادة الاقتصادية والبلادة السياسية”.
اهتمت الدراسات الحديثة في مراكز البحث بمفاهيم الذكاء والحماقة والتفاهة والتهور لدى الرؤساء والنخب القيادية في العالم. السياسية والفيلسوفة الألمانية حنا أراند أطلقت مفهوم “تفاهة الشر” من خلال دراسة انتشار التفاهة لدى النخب القيادية في ألمانيا (النازية) وانتشار كذلك ما يطلق عليه “التفاهة العادية” لدى الشعب الألماني. بخلاف ذلك، عمل السياسي والاقتصادي الفرنسي جاك جينيرو في كتابه الذي يحمل عنوان “عندما يستولي الغباء الاقتصادي على السلطة”، على التنظير لما يطلق عليه “انتشار البلادة”، بلادة بعض الرؤساء وبلادة بعض النخب القيادية. ترسيخ مفهوم “انتشار البلادة” يتمثل في أننا لا نتخذ القرارات الفاعلة لأننا أذكياء، بل لأننا نستعمل الذكاء قبل اتخاذ القرار، وبالتالي فنحن لا نقوم بتحليل بليد لأننا لسنا أذكياء، بل لأننا نهمل التفكير الذي يتطلب الاستعمال الفعال للذكاء.
الباحث الاقتصادي والسياسي جاك جينرو من خلال تنظيره لما أطلق عليه “سيطرة البلادة”، كان يرمز كذلك إلى أن الدول التي نجحت في تجاوز أزمة كوفيد بأقل الخسائر هي الدول التي لم تكتسح “البلادة” مراكز اتخاذ القرار داخلها. المغرب ومن خلال استراتيجية القول ذي الحمولة الاقتصادية “إنه الاقتصاد يا غبي”، كان يثبت أنه اختار الاستراتيجية الصحيحة والفعالة والمفيدة.
11. الخطاب الملكي واستراتيجية الاقتصاد في الكلام
الوثيقة الدستورية (وخصوصا الفصول 41-42-45-47-48-49-50-51-54) تؤكد أن الملك يحكم، والذي يحكم يقرر، وبالتالي نستحضر مقولة “إن الحكم هو القرار”، ونذكر هنا بما سبق أن قاله السياسي الفرنسي بيير مانديس فرانس سنة 1953، في خطاب ألقاه في الجمعية الوطنية الفرنسية، من أن “الحكم هو الاختيار، رغم الصعوبة الكبيرة في القيام بالاختيار”، وبالتالي نستخلص أن الزمن الأساسي للملكية حسب الوثيقة الدستورية من المفروض أن يكون مخصصا للقرار.
لكن محتوى الفصل الثاني والخمسين من الدستور، الذي ينص على أن “للملك أن يخاطب الأمة والبرلمان، ويتلى خطابه أمام كلا المجلسين ولا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي مناقشة”، يؤكد كذلك أن هناك زمنا ثانويا مخصصا للكلام أو القول، وبالتالي عملت الوثيقة الدستورية على ترسيخ استراتيجية “الحكم هو القرار وهو بشكل ثانوي الكلام”.
تأكيد الوثيقة الدستورية أن الزمن الملكي مخصص في مجمله لترسيخ (بشكل أساسي) شعار “الحكم هو القرار”، هو تأكيد على أن كنه السياسة ومحركها هو ما سبق وأكد عليه لينين في الوثيقة السياسية التي كتبها وتحمل عنوان “ما العمل؟”، أو السؤال الذي تطرحه الأكاديمية في الجامعة الإيطالية أستاذة النظرية السياسية أنطوان هولا غارسيا: “ماذا يجب أن نفعل؟”، مما يوضح أن رأس السلطة التنفيذية في الدول من المفروض أن يتساءل حول ما يجب فعله، لأن السياسية تلزم وتتطلب الحسم في المشاكل (المشكل السياسي من المفروض أن يحل، وبالتالي يتطلب قرارا) والقضايا وإيجاد الحلول.
العصر الحاضر يتميز بوجود صنفين من الرؤساء. من جهة، صنف الرؤساء الصحافيين، والرؤساء-الإعلاميين، والرؤساء الذين يقضون جزءا مهما من وقتهم في الإعلام. ومن جهة أخرى، صنف الرؤساء المرتبطين بالكرسي الرئاسي والعمل الرئاسي الذي يتطلب الزمن الطويل، والذي يتم تحت الأرض (تعبير بيير بورديو للتفريق بين الفلاسفة الذين يشتغلون بعيدا عن الأضواء) والبعيد عن الإعلام.
صنف الرؤساء المرتبطين بمهامهم الدستورية الذين يأخذون الوقت الكافي والضروري من أجل وضوح الصورة لنضج موقفهم التعبير عنه، يتميزون بكونهم لا يفضلون الزمن اللحظوي للمواقف وردود الفعل ويفضلون الزمن الطويل وكذلك البقاء في برجهم العالي لأنهم مقتنعون بأنه ليس مطلوبا منهم إعطاء الموقف عند كل حدث وطني أو دولي.
المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس اختارت استراتيجية السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو والسياسي الفرنسي لورون بيفيت الذي قال: “إني أنتمي لجيل فضل إهمال الحياة الإعلامية”. إذا كان الملك الراحل الحسن الثاني فضل الحياة الإعلامية من خلال الحكم عبر الحوارات الصحافية والكلام عبر الإعلام من خلال ثنائية “سؤال-جواب”، والدردشة مع الصحافيين، وبالتالي كان يرسخ استراتيجية “أنا أحكم إذن أنا أتكلم وأدردش كذلك”، فان الملك محمد السادس اختار عن طواعية استراتيجية التراجع الضروري من أجل التفكير ومنح الوقت لنضج الأفكار ووضوح المواقف، وبالتالي فضل الاحتفاظ بمساحة معينة ما بين زمن العمل وزمن الخطابة، مع الابتعاد عن الإعلام (وبالتالي، كان يرسخ استراتيجية “أنا أحكم وأخطب قليلا” (الوثيقة الدستورية) وبالتالي، لا وقت لي للدردشة مع الإعلام”.
السياسي الفرنسي جاك بلهان، مستشار الرئيسين فرانسوا ميتران وجاك شيراك في التواصل، نظّر لما يمكن أن يطلق عليه “الصمت الرئاسي”، الذي ينص على أن الرئيس من أجل أن يكون مسموعا وقادرا على السباحة ضمن الضجيج الإعلامي اليومي، عليه تفضيل التقليص من حضوره الإعلامي عبر ممارسة استراتيجية “الصمت الرئاسي”، (وهنا وجب التذكير بأن المؤسسة الملكية مارست ما يطلق عليه استراتيجية الصمت الملكي إبان أزمة كوفيد رغم أن بعض الأصوات طالبتها بالتدخل من أجل المساعدة في احتواء الفيروس، ولكن المؤسسة الملكية كانت متيقنة من أن مواجهة الفيروس تحتاج إلى الفعل وليس الكلام. استراتيجية التقليص من الحضور الإعلامي لرئيس الدولة تخلق لدى الرأي العام الرغبة الجامحة لانتظار الكلام الرئاسي، وتمنح لهذا الكلام الرئاسي القليل والمركز الحضور الإعلامي الأول.
أثبتت التجارب الدولية أن استراتيجية كثرة الخطابات (والخروج الإعلامي المتكرر) تقتل الخطاب، وبالتالي من المستحب تبني استراتيجية الكلمة القليلة والمركزة والثقيلة (خطاب المسيرة الخضراء-خطاب العرش-خطاب ثورة الملك والشعب). المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس توفقت بشكل كبير في تبني استراتيجية الاقتصاد في الكلام.
12. الخطاب الملكي وترسيخ مكان السلطة المشغول
ترسيخ الملكية المتكلمة من خلال الوثيقة الدستورية (وخصوصا استراتيجية: إننا نراك)، هو إشارة كذلك إلى أن الدستور أراد كشف مكان ممارسة السلطة. وفي هذا السياق، فإن اللحظة الدستورية المتضمنة: الإعلان عن حلول زمن الخطاب-النشيد الوطني وشعار المملكة-الخطاب الملكي-واختتام الخطاب الملكي بالنشيد الوطني وشعار المملكة، تؤكد لنا بالملموس أن المشرع الدستوري اختار ترسيخ ما يمكن أن يطلق عليه “مكان السلطة المشغول”، وليس “مكان السلطة الشاغر”.
الباحث الفرنسي كلود لوفورط ابتكر مفهوم “المكان الشاغر للسلطة”، حيث أكد أن في الديمقراطيات الحديثة، السلطة توجد في كل مكان، وبالتالي يصعب تحديد مكانها. لهذا، فإن الديمقراطية الحديثة ترسخ مفهوم “مكان السلطة الشاغر”، على اعتبار أن من يمارسون السلطة السياسية ليسوا الا مدبرين حكوميين بسطاء. الأزمات التي اجتاحت العالم في القرن الواحد والعشرين أثبتت عكس ذلك، من خلال بروز الحاجة إلى وجود مكان للسلطة واضح وجلي، وهو ما يفند ما نظّر له صاحب مفهوم “مكان السلطة الشاغر”.
الأسئلة الصعبة في علم السياسة والمرتبطة بـ: أين السلطة”؟ هل للسلطة مكان؟ ومن يمارسها؟ وجد لها المشرع الدستوري حلا، من خلال جعل مكان السلطة مكانا واقعيا ومكشوفا.
وإذا كان الفيلسوف غاستون باشلار قد أكد أنه ليس هناك إلا الوجه المخفي، إلا أن الباحث بيير برنبوم وفي كتاب (تحت إشرافه) يحمل عنوان “أين السلطة”، أكد عكس ذلك من خلال التوضيح أن الفعل مرتبط بضرورة الكشف عن الوجه. وبالتالي، فإن الفعل هو شيء مرئي، لأن السياسة تتطلب أفعالا تنجز ضمن الحقل المرئي والمكشوف، وتنجز في الساحة العمومية حيث يتم كشف الوجه. وبالتالي، فإن الوثيقة الدستورية المغربية شرعنت ثنائية “الوجه-الخطاب”.
الخلاصة
في سنة 1785، كتب الفيلسوف ورجل السياسة والناشر الفرنسي نيكولاس دوكوندورسيت إلى ملك بروسيا فريديرك الثاني قائلا: “إن سعادة الشعوب تعتمد أكثر على تنور قادتها من اعتمادها على شكل دساتيرها”.
يقول الكاتب ايدوارد لويس: “الديمقراطية هي القدرة على الحسم في المواضيع”. وبالتالي، فإن رؤساء الدول الناجحين هم رؤساء الدول الذين يمتلكون القدرة على إغلاق الملفات المفتوحة في البلد. من خلال القول الثقيل والقول الفصل، كانت الملكية تؤكد أن القول الثقيل والقول الحسم هو ما يعمل على حسم وإغلاق الملفات.
في تعليقه على الانتخابات الفرنسية الأخيرة، قال الفيلسوف مارسيل غوشيت: “إن الشعب الفرنسي يبحث عن الرئيس القادر على تغيير فرنسا”، وأكد كذلك أن الشعوب بشكل عام تشتكي من عدم قدرة الرؤساء على تخصيص الكلمة العمومية إلى لحظة للحقيقة والى لحظة لتحديد وتسمية المشاكل التي من المفروض مواجهتها بشكل جماعي، لكن الملكية في عهد محمد السادس، ومن خلال التركيز على القول الفعل والقول المرحلة والقول التاريخ، تعطي انطباعا إيجابيا للشعب المغربي بأنها ليست ملكية تحت مظلة الاستمرارية، بل ملكية تحت مظلة التغيير (تغيير البوصلة الاستراتيجية). ومن خلال ترسيخ الملكية المتكلمة في إطار الحكامة الملكية الجديدة (القول-الالتزام-التصفية-الأمر بالأداء-الإنجاز)، كانت المؤسسة الملكية في عهد محمد السادس ترسخ الشكل الجديد للسياسة المغربية ولكيفية قيادة الشأن العام بالمغرب.
المتتبع لقول الملكية في عهد محمد السادس سيلاحظ أن هذا القول يستعمل مرة “الأنا” (الممثل الأسمى ورأس هرم الدولة) وتارة أخرى “نحن” (الملك-الأمة). أستاذة علم السياسة الإيطالية أنطوان هولو غارسيا تؤكد أن الرؤساء عندما يستعملون “الأنا” في خطاباتهم وقولهم، فإنهم يتصرفون كقادة مطلوب منهم تحديد الاتجاه. وعندما يستعملون “نحن”، فإنهم يركزون على ضرورة الوحدة من أجل بناء المستقبل المشترك، وبالتالي يركزون على ضرورة الجماعة من أجل صناعة الأفق. الملكية المتكلمة التي تستعمل “الأنا-نحن” هي ملكية تؤكد على ثنائية “المرحلة-الاتجاه”، وهكذا عملت الملكية على تخصيص القول الملكي المرتبط بخطاب المسيرة الخضراء وخطاب ثورة الملك والشعب لقضايا الوطن والاتجاه العام بالأساس (قضايا الأرض والوحدة-قضايا الإجماع-القضايا المتعلقة بالبوصلة الاستراتيجية)، أما القول الملكي موضوع خطاب العرش فعملت من خلاله على التركيز على القضايا المرتبطة بالمرحلة (ما أنجز في مرحلة حكم محمد السادس-والمطلوب استكمال إنجازه-القيمة المضافة للملكية في عهد محمد السادس).
القول الملكي الذي يركز على ثنائية المرحلة والتوجه العام للبوصلة، عمل على وضع البلد في المستقبل، وتركيز الضوء على الأهداف والمستقبل يعمل على نشر الطمأنينة لدى الأمة والرأي العام.
#السويني #يدقق #في #الابتعاد #عن #الخطب #المرتجلة #من #أجل #ترسيخ #الملكية #المتكلمة